وهدةٍ قريبةٍ منه، فتنققن فيها، وتضججن. فإنه إذا سمع أصواتكن لم يشك في الماء فيهوي فيها. فأجبنها إلى ذلك؛ واجتمعن في الهاوية، فسمع الفيل نقيق الضفادع، وقد اجهده العطش، فأقبل حتى وقع في الوهدة، فارتطم فيها. وجاءت القنبرة ترفرف على رأسه؛ وقالت: أيها الطاغي المغتر بقوته المحتقر لأمري، كيف رأيت عظم حيلتي مع صغر جثتي عند عظم جثتك وصغر همتك? فليشر كل واحد منكم بما يسنح له من الرأي. قالوا بأجمعهم: أيها الفيلسوف الفاضل، والحكيم العادل، أنت المقدم فينا، والفاضل علينا، وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك، وفهمنا عند فهمك? غير أننا نعلم أن السباحة في الماء مع التماسيح تغريرٌ؛ والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه. والذي يستخرج السم من ناب الحية فيبتلعه ليجربه جانٍ على نفسه، فليس الذنب للحية. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن من وثبته. وهذا الملك لم تفزعه النوائب، ولم تؤدبه التجارب. ولسنا نأمن عليك ولا على أنفسنا سطوته وإنا نخاف عليك من سورته ومبادرته بسوءٍ إذا لقيته بغير ما يحب. فقال الحكيم بيدبا: لعمري لقد قلتم فأحسنتم، لكن ذا الرأي الحازم لا يدع أن يشاور من هو دونه أو فوقه في المنزلة. والرأي الفرد لا يكتفي به في الخاصة ولا ينتفع به في العامة. وقد صحت عزيمتي على لقاء دبشليم. وقد سمعت مقالتكم؛ وتبين لي نصيحتكم والإشفاق علي وعليكم. غير أني قد رأيت رأياً وعزمت عزماً؛ وستعرفون حديثي عند الملك ومجاوبتي إياه فإذا اتصل بكم خروجي من عنده فاجتمعوا إلي. وصرفهم يدعون له بالسلامة.
ثم إن بيدبا اختار يوماً للدخول على الملك؛ حتى إذا كان ذلك الوقت ألقى عليه مسوحة وهي لباس البراهمة؛ وقصد باب الملك، وسأل عن صاحب إذنه وأرشد إليه وسلم عليه؛ وأعلمه قال لي: إني رجل قصدت الملك في نصيحةٍ. فدخل الآذن على الملك في وقته؛ وقال: بالباب رجلٌ من البراهمة يقال له بيدبا، ذكر أن معه للملك نصيحة. فأذن له؛ فدخل ووقف بين يديه وكفر وسجد له واستوى قائماً وسكت.
وفكر دبشليم في سكوته؛ وقال: إن هذا لم يقصدنا إلا لأمرين: إما لالتماس شيءٍ منا يصلح به حاله، وإما لأمر لحقه فلم تكن له به طاقةٌ. ثم قال: إن كان للملوك فضلٌ في مملكتها فإن للحكماء فضلاً في حكمتها أعظم: لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال. وقد وجدت العلم والحيا إلفين متآلفين لا يفترقان: متى فقد أحدهما لم يوجد الآخر؛ كالمتصافيين إن عدم منهما أحد لم يطب صاحبه نفساً بالبقاء تأسفاً عليه. ومن لم يستحي من