لغة " أكلوني البراغيث "
مفهومها :
إلحاق الفعل الماضي أو المضارع أو الصفة عند إسنادها إلى ظاهر مثنى أو مجموع حروفًا هي : " الألف " و " الواو " و " النون " كقول بعض العرب : ضربوني قومك ، وضرباني أخواك (انظر شرح التسهيل لابن مالك 2/ 116)
أما بقية العرب فيوحدون الفعل في ذلك كله ، قال سيبويه : ( وإنما قالت العرب : قال قومك ، وقال أبوك ؛ لأنهم اكتفوا بما أظهروا عن أن يقولوا : قالا أبواك ، وقالوا قومك ، فحذفوا ذلك اكتفاءً بما أظهروا ) (الكتاب 1/ 234 . )
اسم هذه اللغة :
جرى أكثر العلماء على تسمية هذه اللغة " لغة أكلوني البراغيث " ، أو لغة من يقول من العرب : ضرباني أخواك ، وضربوني قومك ، وقمن نسوتك ، أو غيرها من الأمثلة ، والأول أشهر وأكثر ، ويمكن أنَّ النحويين اختاروا " أكلوني البراغيث " تبعًا لسيبويه (انظر : الكتاب 1/ 5 ، 6 . )
ولما جاء ابن مالك سماها إضافة إلى ذلك : " لغة يتعاقبون فيكم ملائكة " ، قال ابن مالك : ( ويجوز على لغة " يتعاقبون فيكم ملائكة " أن يجمع الرافع الظاهر جمع مذكر سالما إن كان المرفوع جمع مذكر عاقل ، فيقال : مررت برجال صالحين بنوه .. )
قال أبو حيان : ( واعلم أن العرب من يقول : ضربوني قومك ، وضرباني أخواك ، ويسميها بعضهم لغة " أكلوني البراغيث "وابن مالك يقول : لغة " يتعاقبون فيكم ملائكة " (انظر : الارتشاف 1/ 354)
إلى من تنسب ؟
قال السيوطي : ( نقل الأئمة أنها لغة ، وعُزِيت لطيئ وأزد شنوءة) (انظر : الهمع 1/ 160)
وأشار إليها ابن هشام بقوله : لغة طيئ أو أزد شنوءة أو بني الحارث (المغني 2/ 365 . )
من شواهدها :
هذه طائفة من شواهد هذه اللغة من القرآن الكريم وقراءاته ، والحديث النبوي الشريف ، وكلام الصحابة والتابعين ، ومنثور كلام العرب وأشعارهم ، وأمثلتها في شعر المولدين .
أولا : القرآن الكريم وقراءاته
1 -قال اللَّه تعالى : { وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } (سورة المائدة / 71 . )
موطن الشاهد : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ }
حيث اتصلت واو الجمع بالفعلين " عموا " و " صموا " ، وجاء بعدهما قوله : " كثير " .
أجاز الفراء
(معاني القرآن 1/ 316)
في " كثير " أربعة أوجه هي :
أ - الرفع على أنها بدل من واو الفاعل في " عموا " .
ب - الرفع على أنها فاعل ، والواو حرف دال على الجمع ، على لغة " أكلوني البراغيث " .
ج - جعلها مصدرًا ، ورفعها على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : ذلك - أي : العُمْيُ والصُّمُّ - كثير ، أو منهم كثير .
د - نصبها على أنها نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : عمًى وصممًا كثيرًا ، وبالنصب قرأ ابن أبي عبلة
(انظر : البحر المحيط 3/ 534 . )
وقال ابن هشام : ( وقد حمل بعضهم على هذه اللغة : { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ }
2 -قال اللَّه تعالى : { لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ }
(سورة الأنبياء / 3 . )
وممن قال بحمل الآية على لغة " أكلوني البراغيث " الفراء وأبو عبيدة والأخفش والزمخشري.
ثانيًا : الحديث النبوي الشريف
جاء في صحيح البخاري :
عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ - : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ "
(انظر : فتح الباري 2/ 23 ، الحديث رقم 555 ، كتاب المواقيت رقم ( 9 ) ، باب فضل صلاة العصر رقم ( 16 ) )
قال النووي : ( فيه دليل لمن قال من النحويين : يجوز إظهار ضمير الجمع والتثنية في الفعل إذا تقدم ، وهو لغة بني الحارث ، وحكوا فيه قولهم : " أكلوني البراغيث " ، وعليه حمل الأخفش ومن وافقه قول اللَّه تعالى : { لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } وقال سيبويه وأكثر النحويين : لا يجوز إظهار الضمير مع تقدم الفعل ، ويتأولون كل هذا ، ويجعلون الاسم بعده بدلا من الضمير ولا يرفعونه بالفعل ، كأنه لما قيل : وأسروا النجوى ، قيل : مَن هم ؟ قيل : الذين ظلموا ، وكذا : يتعاقبون ونظائره (صحيح مسلم بشرح النووي 5/133) .
ثالثا: من الشعر العربي
قال الشاعر :
نصروك قومي فاعتززتَ بنصرهم *** وَلَـو أنَّهم خذلوك كنتَ ذليلا
" نصروك " : فعل ماض أسند إلى " قومي " ، و " الواو " فيه علامة للجمع ، ولو جاء على الفصحى لقال : نصرك قومي .(انظر : شرح التسهيل لابن مالك 2/ 117)
قال مجنون ليلى " قيس بن الملوح العامري " :
ولو أحْدقوا بيَ الإنسُ والجنُّ كلُّهمُ *** لكي يمنعوني أن أجيك لجيتُ (انظر : الديوان ص 84)
أحدقوا " : فعل ماض ، فاعله " الإنس " ، و " الجن " : معطوف عليه ، و " الواو " علامة الجمع ، ولو جاء على الفصحى لقال : ولو أحدق بي الإنس والجن كلهم .
موقف العلماء منها :
وقف العلماء من هذه اللغة مواقف مختلفة
أولا : المقوون
قال القزاز القيرواني ( ت 412هـ ) : ( إن الشاعر يجوز له استخدام هذه اللغة في الضرورة ، ثم قال : وزعم أكثر النحويين أنها جائزة في الشعر والكلام ) (انظر : ما يجوز للشاعر في الضرورة ص 217 - 219 . )
وقال السهيلي ( ت 581هـ ) : ( ألفيت في كتب الحديث المروية الصحاح ما يدل على كثرة هذه اللغة وجودتها )
(انظر : توضيح المقاصد للمرادي 2/ 7)
وقال ابن يعيش : ( إنها لغة فاشية لبعض العرب ، كثيرة في كلامهم وأشعارهم ) (شرح المفصل 3/ 89 . )
وقال أبو حيان : ( قيل : الصحيح أنها لغة حسنة ) (البحر المحيط 6/ 297 . )
ثانيًا : المقللون :
قال سيبويه : هي قليلة (الكتاب 1/ 236 . )
وتبعه شارح كتابه الأعلم الشنتمري (النكت 1/ 456 . )
وقال ابن مالك في الألفية : (الألفية ص 25 . )
وقـد يقـال سَعِدا وسَعِدُوا *** والفعلُ للظاهر بعد مسندُ
قال ابن عقيل : كلام ابن مالك يشعر بأن ذلك قليل ، والأمر كذلك (شرح ابن عقيل 1/ 468 . ).
وقال الشاطبي : وهذه اللغة ضعيفة قليلة (شرح الألفية ص 512 مخطوط . )
ثالثًا : المضعفون :
قال الحريري : ما سُمِعَ ذلك إلا في لغة ضعيفة (درة الغواص ص 108 . )
وقال أبو علي الشلوبين : هي لغة ضعيفة (شرح المقدمة الجزولية الكبير 2/ 576 . )
وقال ابن عصفور : هي لغة ضعيفة (شرح الجمل 1/ 167 . )
وقال أبو حيان : هذه اللغة عند جمهور النحويين ضعيفة (الارتشاف 1/ 354 . )
وقال : إلا على لغة ضعيفة (التذييل والتكميل 2/ 5 . )
وقال ابن هشام : حمل الآيتين على غير هذه اللغة أوْلى لضعفها (المغني 2/ 366 . )
وفي الأخير
فإن هذه اللغة قد جاءت الشواهد الدالة عليها في القرآن الكريم ، وفي الحديث الشريف ،كما جرت أيضا على ألسنة شعراء كثيرون ليسوا من القبائل الثلاث التي تنسب إليها هذه اللغة ، وهي طيئ وأزد شنوءة وبنو الحارث بن كعب .
كما أن هذه اللغة وإن وصفت بالقلة أو الضعف وهو ما عليه الجمهور ، فإن وصفها بالندرة أو الشذوذ أو الغلط أو إنكارها بالكلية ، شيء يحتاج إلى إعادة نظر .
يقول الدكتور خليل عمايرة : ( إذا كانت شواهد هذه اللغة قد جاءت في القرآن الكريم ، وهو أفصح نص بالعربية ، وفي الحديث الشريف ، وهو على درجة رفيعة من البيان ، وفي الشعر العربي ، فما المبرر للقول بأنها شاذة ؟! ) (انظر : آراء في الضمير العائد ولغة أكلوني البراغيث ص 50 )